دواعي وعواقب انسحاب المغرب من قمة التيكاد
انسحب المغرب من منتدى طوكيو الدولي لتنمية افريقيا، المعروف اختصارا ب”التيكاد”، في طبعته الثامنة المنعقدة بتونس يومي 27 و 28 أغسطس، وذلك بعد ثلاثين سنة من المشاركة في أحد أهم المنتديات الاقتصادية والسياسية العالمية.
وقد تم اتخاذ قرار الانسحاب بعد خطاب الملك المغربي الأخير الذي أعلن فيه أن بلاده ستجعل من موقف أي طرف، دولة كانت أو منظمة، من قضية الصحراء الغربية، المنظار الذى يحدد المغرب من خلاله التعامل مع أي كان.
وفي نفس خطابه السالف الذكر أعلن محمد السادس أن على من يرغب فى علاقات عادية مع مملكته أن يعلن صراحة تأييده لموقف الدولة المغربية من قضية الصحراء الغربية وأن المغرب لن يقبل من الآن، من أي كان، موقفا متذبذبا أو غامضا، مطالبا أصدقاء بلاده القدامى والجدد الخروج من الدائرة الرمادية. فإما أن تكون معها أو ضدها، وليس هناك مرتبة أخرى ما بين الجنة والنار.
غير أن الموقف يتطلب معرفة الأسباب والدواعي الموضوعية والذاتية التي أدت بالجالس على كرسي العرش العلوي المغربي إلى اتخاذ قرار من هذا الحجم وهذه الخطورة. وبالتالي لا بد أن نتسائل هل محمد السادس هو، بالفعل، من اتخذه؟ وإذا كان هو صاحبه فهل يعي حقا ويعرف تبعاته ونتائجه على نظامه و على المغرب؟
مقاربة ملك المغرب الجديدة تذكر بقرار الرئيس الأمريكي الاسبق جورج بوش الإبن، إن لم تكن معي فانت ضدي
إذا كانت الولايات المتحدة الامريكية التي تتزعم حلف الشمال الأطلسي، والقوة الاقتصادية والعسكرية العالمية المعروفة، وصاحبة الفيتو، يمكنها أن تقنع العديد من دول العالم بالاصطفاف وراء خياراتها ومواقفها، طمعا فيها أو خوفا منها، فكيف لبلد من العالم الثالث يوجد في مواقع متأخرة على سلم مؤشرات التنمية البشرية جميعها، وتثقل كاهله مديونية أصبحت تقارب الدخل الاجمالي الوطني، ويعيش أزمة مزدوجة، هيكلية وشرعية، منذ استقلال البلد شكليا عن فرنسا، نظامه ما زال يحافظ على تقاليد قرن-أوسطية حيث السيد فيه هو الملك وحده، صاحب القدسية المطلقة، يتحكم في البلاد والعباد الذين هم ملك له، ورعاياه، بعيدا عن كل المفاهيم العالمية بخصوص السيادة والمواطنة، يجمع كل السلطات بين يديه، فكيف له إذا، وحاله هكذا أن يقدم على اعتماد المقاربة المتغطرسة السالفة الذكر؟
من هنا، لا بد أن نستعرض جملة معطيات جوهرية للإحاطة بما يمكن أن يكون ردا، أو يشكل أجوبة على خلفيات قرار ملك المغرب.
1- المعطاة الأولى تتمثل في كون الحرب التي أعلنها الحسن الثانى سنة 1975 كانت تهدف، قبل كل شيء، إلى إنقاذ نظامه الذي، بالرغم من قمعه وتصفيته للمعارضين، واجه رفضا شعبيا قويا انخرطت فيه غالبية الشعب المغربي وشاركت فيه النقابات والطلبة في المدن الكبرى وعززه ما كان يعرف آنذاك بمعارضة أحزاب “الكتلة الوطنية”.
وعندما خرجت الأوضاع عن السيطرة وتوالت الانقلابات سنتي 1971 و 1972، انتهز الحسن الثانى دخول اسبانيا مرحلة انتقالية، لا تخلو من المخاطر بالنظر إلى ماضيها القريب، وفي وقت كان الحاكم العسكري الجنرال فرنكو يرقد على سرير الموت، ليحضر مع فرنسا وقوى خارجية أخرى للعدوان الثلاثي وغزو الصحراء الغربية وتقسيم أرضها وخيراتها وتشريد وتقتيل شعبها ليورط المغرب، هكذا، في حرب توسعية بهدف صرف أنظار الشعب المغربي عن معركة الديمقراطية وسيادة الشعب والمواطنة.
كما كان قرار الغزو والعدوان يهدف خاصة إلى إبعاد الجيش عن دفة الحكم لكي يتمكن البلاط من استرجاع أنفاسه في مرحلة أولى، على الأقل، ليتسنى له إحكام السيطرة سياسيا، في مرحلة لاحقة، مستغلا الشوفينية المصحوبة بوعود “إلدورادو” في أوساط شعب يسيطر عليه الجهل التام والفقر والحرمان.
كانت الفرصة هكذا مواتية للحسن الثانى، بعدما تخلص من كبار الضباط بعد اغتيال المهدي بن بركة وعمر بن جلون وعديد المعارضين الممثلين لمطالب الاستقلال السياسي وإلغاء الحماية، ليبتكر وقتها شعارات مثل “الحرب المقدسة” و”القضية الوطنية” ليكمم الافواه نهائيا ويفرض الاصطفاف ورائه ويقضي على كل الأصوات المعارضة.
دخل المغرب إذا دوامة ستة عشر سنة من حرب تجاوزت معاركها شراسة معركة “ديان بيان فو” الفيتنامية، مخلفة آلاف الأسرى المغاربة من الجنود والضباط وجيش فشل في المواجهة المباشرة، بمعنويات منهارة، وراء أحزمة دفاعية تحولت إلى مقابر جماعية، جيش ينتظر هجوم وحدات المقاتلين الصحراويين ليلوذ بالفرار من المعارك، ويلقي بأسلحته وراءه.
استحالة ربح الحرب والعزلة على الصعيدين القاري والعالمي وتحطم الاقتصاد واستفحال الأزمة فرض على الحسن الثانى مراجعة حساباته
- المعطاة الثانية هي أن الحرب فى الصحراء الغربية كانت وسيلة استعملها الملك الحسن الثاني للحفاظ على عرشه، ولم تكن على الإطلاق حرب الشعب المغربي، الذي لا تعرف غالبيته، أثناء الغزو وبعد، حتى أين تقع الصحراء الغربية، ولا يطالب بها كما يتم الترويج له عبر أكذوبة الاجماع حول دعاية الاستعلامات المخزنية وشعاراتها مثل “مغربية الصحراء” و “من طنجة إلى لگويرة”.
وعندما قرر الحسن الثانى التوجه إلى استفتاء تقرير المصير، بعد ما تأكد من استحالة ربح الحرب عسكريا ورفض المجتمع الدولي لمطالبه الترابية، واقتراب الوضع الداخلى مما وصفه الحسن بخطر “السكتة القلبية”، لم يعارضه إلا شخص واحد هو عبد الرحيم بوعبيد، زعيم الإتحاد الاشتراكى آنذاك، الذي أدخله السجن لتأديبه وليخرجه منه بعد بضعة أسابيع بمنصب وزير للدولة، لتتبخر هكذا الأطروحة التوسعية المغربية ومعها شعارات القصر ودعاية المخزن وأولها ما يسمى بالإجماع حول “مغربية” الصحراء. - لا بد أن نعرج على معطاة ثالثة وأساسية، لا يمكن تجاهلها، وهي أن للقصر المغربي معركة قديمة مع جزء كبير من الشعب المغربي المنظم فى إطار جزء من الحركة الوطنية وذلك منذ الحراك المطالب بالاستقلال بداية خمسينيات القرن الماضي، تتمثل في اشتراط الاستقلال التام عن فرنسا بلا تبعية ومواصلة التنسيق مع الثورة الجزائرية والحركة الوطنية التونسية في إطار العمل المغاربي المشترك.
هذه المعركة بين القصر، ممثلا للمصالح الفرنسية والمدعوم أساسا من حزب الاستقلال، وبين الجناح الوطني المطالب بالاستقلال التام، انتهت بانتصار فرنسا وأعوانها وتمخضت عن التوقيع على اتفاقيات “ايكس ليبان” التي سهلت إحلال السلطان “المنفي” محل المقيم العام الفرنسي لترسيم نظام حماية فرنسي بأدوات مغربية إلى يومنا هذا مع الإصلاحات الدورية التي يتم إدخالها من حين لآخر لضمان استمراره.
هذه المعطاة الداخلية ما زالت قائمة إلى اليوم وتطفو على السطح كل مرة نتيجة لتجذرها في التاريخ السياسى المغربي المعاصر وهي تعبر في العمق عن رفض للنظام الملكي وللتبعية لفرنسا.
وبالفعل لم يكف اغتيال القيادات المغربية التى عاصرت مرحلة حصول المغرب على استقلاله الشكلي لاختفائها بسبب ارتباطها بالصراع الرئيسى بين توجه دعاة الاستقلال والسيادة وبين أتباع نظام الحماية المتجدد والقائم إلى اليوم.
وأهم استنتاج من هذه المعطاة الثالثة هو أن النظام العلوي يعيش منذ بداياته صراعا مريرا من أجل البقاء والبحث الدائم عن الشرعية، وعندما يواجه الخطر لا يتردد في التحالف مع الشيطان ولا يهمه أي شيطان كان. فسواء كان شيطان الحماية المؤسس له من قبل الجنرال “ليوطي” أو شيطان تل ابيب المؤطر ضمن اتفاقيات ابراهام، أو شيطان العدوان الثلاثي ظاهريا، السداسي في الواقع، كما جسده إشعال الحرب العدوانية ضد الشعب الصحراوي بحثا عن شرعية داخلية وإسكاتا للمعارضة وتنفيذا، في نفس الوقت، لأجندة خارجية.
كان ضروريا أن نعرج على تقديم المعطيات والحقائق السالفة الذكر، التي يتجاهلها أو يجهلها الكثير من المحللين، لنتطرق إلى الأسباب والدواعى التي أدت بمحمد السادس وفريقه الحالي إلى العدوانية المفرطة والتخبط اللذين كان خطاب 20 أغسطس وهزيمة تيكاد تجسيدان ملموسان لهما.
ونلخص بصفة موجزة الأسباب الموضوعية والذاتية التي أفرزت الوضعية الحالية التي يوجد عليها القصر المغربى داخليا، والتي تفسر تصرفاته مع دول الجوار وإعلانه عن قاعدة سلوكية للتعامل وخارطة طريق يطالب العالم السير عليهما.
ومن هذه الأسباب الموضوعية والذاتية نذكر: - تراجع محمد السادس وفريقه عن الاتفاق المبرم بين المغرب وجبهة البوليساريو تحت إشراف الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية سنة 1991 القاضى بتنظيم الاستفتاء بعد 16 سنة من الحرب، هو أكبر خطأ فى التقدير، حيث أعاد فتح الباب، الذي أقفله الحسن الثانى، أمام المجهول بالنسبة للمغرب كدولة ولبقاء النظام الملكي في حد ذاته.
هذا القرار كذلك هو الذي أدى، فى نهاية المطاف، إلى إشعال الحرب من جديد. - عدم قدرة محمد السادس وفريقه الحالي على تحمل المسؤولية واتخاذ القرارات اللازمة للخروج من الأزمة عبر اتباع طريق الشرعية الدولية واحترام الإلتزامات الموقع عليها من طرف المملكة المغربية و تماديهم في التهور معتمدين على الابتزاز وعلى شراء الذمم، واعتمادهم الصبياني في غالب الأحيان على الدعاية والمغالطة وتزوير الوقائع والحقائق.
ومن هذا النهج الذى لا مستقبل له تسويق فريق القصر العلوي داخليا وخارجيا للمقترح المسمى بالحكم الذاتي، الميت وقت ولادته، وبيع مجرد ذكره من طرف بعض الدول في إطار المجاملات والبروتوكول أو التملق أو حتى التهكم أحيانا، على أنه انتصار باهر للمغرب، فى حين أن المجتمع الدولي لن يعترف للمغرب بالسيادة على الصحراء الغربية، وفي حين أن أي حل لا يمر عبر ممارسة الشعب الصحراوي لحقه الثابت فى تقرير المصير والاستقلال مآله النسيان والفشل. - قرار محمد السادس وفريقه القطيعة مع ما يعتبرونه سياسة “الكرسي الشاغر” يعتبر ثاني أكبر خطأ فى التقدير لأن نتيجته الحتمية لن تكون سوى التطبيع غير المعلن مع الجمهوربة الصحراوية، الذي سيمر من فترة مخاض عسيرة قبل أن يتحول من اعتراف ضمني إلى مصالحة واعتراف رسمي وصريح.
- قرار الانضمام إلى الإتحاد الأفريقي، الذى روج له داخليا بأنه سينهي وجود الدولة الصحراوية ويقلب عليها الطاولة ويسحب الملف من المنظمة القارية لصالح معالجته حصريا على مستوى مجلس الأمن لتحكم فرنسا من إمكانية عرقلة السلام المبني على ممارسة الشعب الصحراوي لحقه في تقرير المصير. هذا القرار، إذا، هو الذي ساعد موضوعيا الدولة الصحراوية على انتزاع الحضور في جميع المحافل الاقليمية والدولية التي كان المغرب يجلس فيها بمفرده، دون أن ننسى أن عضويته في الاتحاد الأفريقي فرضت عليه قبول رئاسة الدولة الصحراوية حاليا ومنذ سنوات مجموعة دول إقليم الشمال الذي ينتمي إليه.
- توقيع المغرب على الميثاق التأسيسى للإتحاد الأفريقي الذي يمنع خرق مبدأ احترام الحدود الدولية المعترف بها، ويرفض حيازة الأراضي بالقوة هو الذي سهل قراري قمة الإتحاد الأفريقي لإسكات البنادق سنة 2020 وقمة مجلس السلم والأمن سنة 2021 لمطالبة الدولتين العضوين في الإتحاد، الجمهورية الصحراوية والمملكة المغربية، بإيجاد حل سلمي على أساس مبادئ وأهداف الإتحاد المنصوص بها في القانون التأسيسي كما ذكرنا سابقا.
كل ما تعرضنا له فيما يتعلق بالجذور التاريخية للصراع الداخلي المغربي أو فيما يخص بعض أوجه السياسة الحالية لمحمد السادس وفريقه تجاه الحرب والصراع الدائر مع الجمهورية الصحراوية يفسر أن:
1- أن الفشل الذريع، للذي يدعي أنه أمير للمؤمنين وهو، في نفس الوقت، رئيس لجنة القدس، أدى به إلى التطبيع مع اسرائيل والدخول معها فى ما يشبه اندماجا أو تحالفا عسكريا وأمنيا و اقتصاديا وثقافيا باعتبار أن محمد السادس وفريقه يقدرون أن هذا هو المخرج الوحيد الذي يضمن البقاء للقصر، ويفتح للمغرب الذي دخل فى دائرة السكتة القلبية حقنة من الاوكسيجين لمنع الانفجار بسبب الأوضاع الاقتصادية الكارثية أو تأخيره على الأقل.
2- وأنه بهذا القرار الغبي تكتيكيا والخاطئ استراتيجيا يعترف القصر العلوي، أمام الرأي الداخلي المغربى وأمام العالم بأنه دولة احتلال ودولة “بلطجة” لم يبق لديها سوى تهديد المجتمع الدولي برمته بإعلانها عن تمردها على الشرعية الدولية. وبهذا يكون القصر قد اختار نسف امكانية السلام العادل والنهائي في الحرب الدائرة مع الجمهورية الصحراوية، والذي يمر حتما عبر إنهاء الاحتلال واحترام الحدود الدولية المعترف بها.
إن مواصلة النهج الحالي، الذي أبعد الرباط عن باريس وجعلها تابعة لتل ابيب وأدخلها في صراعات مع جميع الجيران ودول المنطقة وآخرها كانت تونس، يفتح الأوضاع على كل الاحتمالات في المغرب لما أظهره محمد السادس وفريقه من فقدان تام لروح المسؤولية، وعدم القدرة على اتخاذ القرارات الكفيلة بالخروج بالمغرب إلى شاطئ النجاة.
المغرب اليوم فقد كل الشروط لكي يكون شريكا يوثق به، واستعماله للهجرة السرية، وتورط أجهزته فى الجريمة المنظمة ومنها الارهاب والمخدرات، ناهيك عن التجسس على الأعداء والأصدقاء على حد سواء، يجعل من هذا البلد دولة مارقة تحكمها عصابة لا تكترث لأبسط القواعد التى بنيت عليها قواعد العلاقات الدولية المعاصرة.
امحمد/ البخاري 31 غشت 2022 .المقال نشر في العدد الأخير لجريدة الخبر الجزائرية